سورة الأحزاب - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ضمت {أي} لأنه نداء مفرد، والتنبيه لازم لها. و{النَّبِيُّ} نعت لاي عند النحويين، إلا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لاي. مكي: ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء. النحاس: وهو خطأ عند أكثر النحويين، لان الصلة لا تكون إلا جملة، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة، وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها. ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين. وأجازه المازني، جعله كقولك: يا زيد الظريف، بنصب الظريف على موضع زيد. مكي: وهذا نعت يستغنى عنه، ونعت {أي} لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع. وأيضا فإن نعت {أي} هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبني قينقاع، وقد تابعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه، ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم، فنزلت. وقيل، إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان، نزلوا المدينة على عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد، وقد أعطاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشق على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالوا. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه. فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرجوا من المدينة، فنزلت الآية. {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} أي خف الله. {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ} من أهل مكة، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة. {وَالْمُنافِقِينَ} من أهل المدينة، يعني عبد الله بن أبي وطعمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه، ولا تمل إليهم. {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً} بكفرهم {حَكِيماً} فيما يفعل بهم. الزمخشري: وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفض ذكر آلهتنا. وذكر الخبر بمعنى ما تقدم. وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة. {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ} من أهل مكة. {وَالْمُنافِقِينَ} من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت. النحاس: ودل بقوله: {إن الله كان عليما حكيما} على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام، أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه، لأنه حكيم. ثم قيل: الخطاب له ولأمته.


{وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)}
قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني القرآن. وفية زجر عن اتباع مراسم الجاهلية، وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفية دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. والخطاب له ولأمته. {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلمي وأبو عمرو وابن أبي إسحاق: {يعملون} بالياء على الخبر، وكذلك في قوله: {بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الفتح: 24]. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي اعتمد عليه في كل أحوالك، فهو الذي يمنعك ولا يضرك من خذلك. {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} حافظا.
وقال شيخ من أهل الشام: قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد من ثقيف فطلبوا منه أن يمتعهم باللات سنة- وهي الطاغية التي كانت ثقيف تعبدها- وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا عندك، فهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فنزلت {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي كافيا لك ما تخافه منهم. و{بِاللَّهِ} في موضع رفع لأنه الفاعل. و{وَكِيلًا} نصب على البيان أو الحال.


{ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قال مجاهد: نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه، وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. قال: وكان من فهر.
الواحدي والقشيري وغيرهما: نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله، فقال أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
وقال السهيلي: كان جميل بن معمر الجمحي، وهو ابن معمر ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، واسم جمح: تيم، وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية، وفية يقول الشاعر:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما *** قضى وطرا منها جميل بن معمر
قلت: كذا قالوا جميل بن معمر.
وقال الزمخشري: جميل بن أسد الفهري.
وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا له قلبان، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول، فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل.
وقيل: نزلت في عبد الله بن خطل.
وقال الزهري وابن حبان: نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين. قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة، وهو من منقطعات الزهري، رواه معمر عنه.
وقيل: هو مثل ضرب للمظاهر، أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان.
وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا، فالمنافق ذو قلبين، فالمقصود رد النفاق.
وقيل: لا يجتمع الكفر والايمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف، فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب. ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الامر، والله أعلم.
الثانية: القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم، فيحصى به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا. وهو بين لمتين: لمة من الملك، ولمة من الشيطان، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خرجه الترمذي، وقد مضى في البقرة. وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والايمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة. والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والايمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز، والله أعلم.
الثالثة: أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم، أي إنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر، لأن درجة النفاق كأنها متوسطة، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد. وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية، متى نسي شيئا أو وهم. يقول على جهة الاعتذار: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
الرابعة: قوله تعالى: {وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ} يعني قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وذلك مذكور في سورة المجادلة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ} أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة.
وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد ابن محمد حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] وكان زيد فيما روي عن أنس ابن مالك وغيره مسبيا من الشام، سبته خيل من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك قبل البعث: «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء». فاختار الرق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حريته وقومه، فقال محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا. وكان أبوه لما سبي يدور الشام ويقول:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله لا أدري وإني لسائل *** أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة *** فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها *** وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبت الأرياح هيجن ذكره *** فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا *** ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي على منيتي *** فكل امرئ فان وإن غره الأمل
فأخبر أنه بمكة، فجاء إليه فهلك عنده.
وروى أنه جاء إليه فخيره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ذكرنا وانصرف. وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} [الأحزاب: 37] إن شاء الله تعالى. وقتل زيد بمؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره في تلك الغزاة، وقال: «إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة». فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ولما أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعي زيد وجعفر بكى وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدثاي».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8